![]() |
غرض المديح في الشعر القطيفي والأحسائي قليل التناول، ومع قلة التناول فإنه يقتصر على الأغلب في مديح الرسول صلى الله عليه وآل بيته الكرام وصحابته الميامين، وتنشد قصائد المديح في مجالس المناسبات وذكرى الميلاد.
ولهذا تعتبر القصيدة المنشورة في عدد (الواحة) السادس، الصادر في ربيع الثاني الماضي، للشاعر المرحوم الشيخ محمد الزهيري، من القصائد القليلة والنادرة، التي غرضها المديح لأشخاص أحياء، وخارج اطار المدائح الدينية المصبوغة بالطابع الديني.
وتزداد أهمية القصيدة، آنفة الذكر، في كونها تمتدح شخصية لا تنتمي الى سلك رجال الدين، بل شخصية ذات طابع سياسي، وهي الركن الأساس من أركان الزعامة المحلية لمنطقة القطيف، في فترة ما قبل التوحيد السياسي للمملكة العربية السعودية على يد المغفور له الملك عبد العزيز، وهي فترة كانت كل مناطق المملكة تعج بالزعامات المحلية التي يغلب عليها التنافس والتصارع.
وما نراه في القصيدة من مديح، قد يكون خلاف الطبع العام لأهالي المنطقة، فهم قلما يمدحون، وقلما يرضون عن أحد، فإن فعل شخص ما خيراً، فلنفسه أولاً، وهو واجب عليه ثانياً، وإن أخطأ سلقوه بألسنة حداد! ويميلون الى منطق: وظلم ذوي القربى أشد مضاضة، ولم يدخل في روعهم حتى اليوم (ولئن شكرتم لأزيدنكم) مع أنه سبحانه وتعالى ليس في حاجة الى عبيده ولا الى شكرهم، ولكنه يرغبهم في الشكر والإحسان الى من أحسن صنعاً. ولعلنا لا نجد شخصية واحدة من شخصيات القطيف الدينية أو السياسية لم يدر حولها لغط من نوع ما من قبل الجمهور، الذي يحتل عقله وفكره الشخصية المثالية (المعصومة) التي على أساسها يحكمون ويحاكمون من دونها بصرامة.
والقصيدة أيضاً، جاءت من رجل دين، وهذا أمر له دلالته، فالطبقة المتعلمة يومها منحصرة في تيار رجال الدين وطلبة العلوم الدينية وحاشيتهم، حيث لا توجد المدارس الحديثة، ولا يوجد مصدر للمعرفة من غيرهم، ولم تكن الآلات والأجهزة الحديثة قد وجدت أو توافرت لدى الأغلبية المطلقة من الجمهور.
لقد تعرض المديح الى زعامة القطيف السياسية أواخر القرن الثالث عشر، وبدايات القرن الرابع عشر الهجري، وهي الفترة التي كان العثمانيون يحكمون فيها المنطقة، ومع أن القصيدة المنشورة في عدد (الواحة) السادس غير مؤرخة، فإن أجواءها توحي بأنها كتبت في أواخر أيام زعامة منصور بن جمعة، وأيضاً أواخر حياة الشاعر الشيخ الزهيري، وأواخر سني حكم الدولة العثمانية في منطقتي الأحساء والقطيف، حيث تلاحقت الفتن والصراعات والحروب، وازدادت حدة المنافسة بين بيوتات الزعامات القطيفية، ولعل القصيدة ولدت من رحم تلك الأجواء المشحونة، فكانت تأكيداً لزعامة ابن جمعة على القطيف، في قبال ورثة الزعيم أحمد مهدي بن نصر الله، حيث عرف عن الشيخ الزهيري ميوله في الصراع الى طرف آل جمعة.
لا بد أن يكون الزعيم كريماً، فزعامة تبخل بالمال هي أبخل من أن تضحي من أجل العامة، وإن من مقومات الزعامة في مختلف المجتمعات: المال، وصرفه، ولذا تبوأت بيوتات الغنى المكان الأعلى في السلم الإجتماعي، خاصة ونحن نتحدث عن بيئة يكثر فيها الفقر وتفشو الفاقة ويزداد عدد المحتاجين. والمال على شكل خدمة وإحسان ليس يجلب السواد الى الزعيم فحسب، بل أنه يخرس أصحاب الألسن، ومن يقوم بدور الإعلام، والتوجيه والدعاية.
وقد اشتهر منصور بن جمعة بكثرة الأملاك، كما اشتهر بالكرم:
ومددت كفك في الزمان فأخصبت إن تفقد الأبوين من نسب فلم قد كان بيتك كعبة من حولها |
بنداك بعد محولها تفقدهما من جودك الأيتام حرم به للوافدين زحام | الأعوام
والمال والأعطيات تخرس أفواه العدى والمنافسين، وهو مطلب المعدمين:
قد عم منك الفضل حتى يا راكباً كالبرق حرفاً شاقه إن جئت أرض الخط فاعقل انما واقصده إن شئت الهداية للغنى |
نالهمنك الذي معروفه للسير شوق مفرط وغرام وسط الكويكب كوكب علام قبّل يديه فما عليك ملام | الآثام
يُقال: ما ساد بخيل. والمرحوم منصور بن جمعة، وإن لم يكن من عائلة ذائعة الصيت، فإن كرمه رفعه الى مقام علي، وقد تجاوزت أعطياته منطقة القطيف الى البحرين والعراق. كما أن أعطياته تجاوزت الأفراد العاديين الى رعاية خاصة بأقطاب المجتمع من رجال الدين والأدباء وغيرهم، وينقل أنه أوقف بعض بساتينه لهذا الغرض.
وبديهي أن زعامة سياسية بحجم منصور بن جمعة، لا بد أنها كانت تنظر الى أفق أبعد، فلرجال الدين في مجتمع زراعي محافظ ثقل كبير، ولكن علاقته بهم لم تكن نفعية بالشكل الذي قد ينصرف اليه الذهن، بل كان يرى في ذلك واجباً دينياً، وهناك وثائق تشير الى علاقة وثيقة بمراجع الدين في العراق، وحينما توفي في البحرين نُقل جثمانه الى العراق ليدفن، حسبما أوصى.
وكما أشارت الواحة في عددها الأول (ص 34) فإن الزعامة القطيفية انحصرت في الملاك ورجال الدين "وفي كثير من الأحيان، إن لم يكن أغلب الأحيان، نرى تحالفاً غير مكتوب بين الطرفين" والمسألة واضحة هنا، فلا زعامة سياسية تستطيع أن تتجاوز دور رجال الدين الذين كانوا الطليعة من حيث التعليم، ولقدرتهم على تحريك الشارع. ومنصور بن جمعة لم يفعل شيئاً سوى الإستجابة لهذه الحقيقة، فمهما بلغت قوته وشأنه فإن زعامته ستكون ناقصة بدون عضد ديني يمنحه شيئاً من الشرعية ومن التفاف الجمهور، وهذا يؤكد ضرورة الرعاية، التي أشار اليها الشيخ الزهيري في الأبيات الثلاثة التي نشرتها (الواحة) آخر القصيدة ـ مع أنها كانت في الأصل تقديماً للقصيدة كما تشير بعض المصادر ـ والتي يبرر فيها مديحه لمنصور:
ما قلت ما قتله في مدحكم في الشرع تعظيم من في عزه العلما |
طلباًإلا لمرضاة رب العرش إذ عزّوا وكان لعزّ الأتقيا سببا | وجبا
تشير القصيدة الى عصامية ابن جمعة:
أتظن رتبتك التي كلا ولكن نلتها بالمجد في |
أحللتهاعفواً بها ثبتت لك كسب المعالي والأنام نيام | الأقدام
لقد نال منصور رتبة الباشوية من السلطان العثماني عبد الحميد، وكان منشغلاً بالسياسة ممتلئاً بالطموح، فكان المنصب أقل من نشاطه وفعاليته، التي سجلت بعض فصولها في جوانب سياسية وعسكرية.
ولئن كان المعطون قلّة في القطيف، لا يتناسب عددهم مع عدد الموسرين، من الذين تضاهي أملاكهم أملاك منصور بن جمعة، فإن من سمات الشجاعة التي أبداها الأخير ما جعله محط اهتمام وآمال الكثيرين. ولعل الصراع المتواصل بين البادية والحاضرة، والذي حكمته الظروف الإقتصادية في الأعم، ووجود منصور في مقام الزعامة إضافة الى كونه كبير الموظفين الذين تعتمد عليهم السلطات العثمانية في إدارة قضاء القطيف، أتاح له فرصة معالجة المشكلة عن قرب، ففي الحرب والسلم كان له دور مشهور، خاصة في وقعة الشربة، تبدأ من توفير السلاح وتنتهي بتوقيع اتفاقات السلام مع البادية.
توفير الأمن كان عقدة السكان، الذين لم ينعموا به إلا بعد قيام الدولة المركزية، وكان من الواجب على متصدي الزعامة أن يثبت موقعه في وقت الأزمات، وهنا فالقصيدة تشير الى ذلك في مواقع متعددة:
لولاك يا كهف الدخيل لكن نهضت لرد كيد عدوهم فجعلت سيف النصر شفع لوائه فترى العداة كما يرى الأسد الظبا فيرون أهون من لقاك لقائهم فكأنك السرحان إذ مزقتهم |
لراعهمموت بأسياف البداة زؤام في نحره فارتده الإرغام وكذاك يفعل ربه المقدام فيروعها في الروع منك صدام موتا وثغرك في الوغى بسّام وكأنهم إذ مزقوا أغنام |
إن الأبيات آنفة الذكر، تشير الى عظم المشكلة الأمنية التي سببها الصراع المرير بين البادية والحاضرة، والذي عجزت عن حله القوات العثمانية نفسها، فكان لزاماً على منصور أن يحل المشكل بنفسه، وإن اتخذ طابع الدفاع عن القرى، وجلب السلاح اليها من الخارج (البحرين)، كما أنه لعب دوراً في التحريض للمواطنين على الدفاع عن أنفسهم، وكان هو وأخوه عبد الحسين في مقدمة الركب:
وتؤمهم للمكرمات يعدون للهيجا بحيث أخالهم بيض الوجوه رئيسهم يوم الوغى |
فحيثمااستنهضتهم لقيام أمر وهم الملوك كأنهم خدام عبد الحسين الفارس المقدام | قاموا
الكرم، والشجاعة.. وأيضاً الرأي السديد في مواجهة المواقف، كانت من الصفات القيادية التي تتطلبها المرحلة لصناعة زعيم بحجم منصور بن جمعة:
وأنلتَ أرض الخط عزاً ما فات قوم أنت فيهم رشدهم |
نالهمنك الذي إعزازه الإرغام كلا ولا زلّت لهم أقدام |
غير أن هناك مهمات لم تنته، وقت كتابة القصيدة، فالوضع الأمني لا يزال على اضطرابه وإن كانت المشاكل الكبرى قد مرت بسلام، وهناك الخلافات الداخلية التي تعصف بالمجتمع والفرقة التي سببها اختلاف المصالح والمنافسات العقيمة بين البيوتات القطيفية على كرسي الزعامة، ولذا ينصح الشاعر منصور بالإلتفات اليها، وأن يحتاط لمشاكل المستقبل، وأنه مسؤول أمام الله عن رعاياه:
وقل القطيف بك استقامت حالها أكرم جميلك في تدبر أمرها إجمع اليها الرأي واحفظ أهلها يتفيئون ظلالك الضافي ولا ولأنت عنهم في المعاد مساءل احتط لهم فهمُ رعيتك الأُلى |
فأعيذ سيفك أن يكون إن المحامد من علاك تمام وسوادها إن السواد طغام يعدون أمرك في مرام راموا إن كان يُسأل في المعاد إمام ترعى فترك الإحتياط حرام | يشام